مايكروسوفت تحقق اختراقًا في الحوسبة الكمّية

كشفت شركة مايكروسوفت يوم الأربعاء الماضي عن إنجاز علمي مهم في مجال الحوسبة الكمّية، إذ نجح باحثوها في بناء أول (كيوبت طوبولوجي) Topological Qubit، وهو الجزيء الذي يحمل البيانات في الحوسبة الكمّية، ويعادل (البت) Bit في الحواسيب التقليدية. ويتميز هذا الكيوبت الطوبولوجي بأنه يعتمد على حالة جديدة ومتقدمة من المادة تختلف عن الحالات الثلاث المعروفة (السائلة والصلبة والغازية) لتخزين المعلومات، مما يجعله أكثر استقرارًا ومقاومة للأخطاء مقارنة بالكيوبتات التقليدية.

 

كما دمجت مايكروسوفت هذا الكيوبت الطوبولوجي في شريحة جديدة تحمل اسم (Majorana 1)، وهي أول شريحة كمّية في العالم مزودة بنواة طوبولوجية.

 

ولم تكتفِ مايكروسوفت بإعلان هذا الإنجاز، بل نشرت أيضًا ورقة بحثية في مجلة (Nature) المرموقة، بالإضافة إلى خريطة طريق تفصيلية للمضي قدمًا في هذا المجال. وتشير الخريطة إلى أن تصميم شريحة (Majorana 1)، التي تعتمد عليها مايكروسوفت، قابل للتوسع ليصل إلى مليون كيوبت، وهو عدد كافٍ لتحقيق العديد من الأهداف الطموحة للحوسبة الكمّية، مثل: تطوير أنظمة تشفير أكثر أمانًا، وتسريع عملية اكتشاف الأدوية والمواد المتقدمة وتطويرها.

 

وإذا صحت ادعاءات مايكروسوفت، فإنها قد تتفوق على منافسَيْها في هذا المجال، وهما: جوجل، و IBM، اللذين يُعدّان من رواد تطوير الحوسبة الكمّية.

 

ومع ذلك، فإن الورقة البحثية التي نُشرت في مجلة (Nature)، والتي خضعت لمراجعة الأقران، لا تُظهر سوى جزء من النتائج التي ادعاها الباحثون، ولا تزال خريطة الطريق تتضمن العديد من العقبات والتحديات التي يجب التغلب عليها، كما أن البيان الصحفي الصادر عن مايكروسوفت، لا يقدم تأكيدًا مستقلًا لقدرات الجهاز الكمّي، وما يمكن أن تفعله هذه الكيوبتات الطوبولوجية.

 

وقد أثار هذا الإعلان العديد من التساؤلات حول طبيعة (الكيوبت الطوبولوجي)، ومفهوم (الكيوبت) بشكل عام، وما الأسباب التي تدفع العلماء والشركات إلى تطوير حواسيب كمّية؟ وفي هذا المقال سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات، واستكشاف التفاصيل المتعلقة بإنجاز مايكروسوفت، وتحليل الفرص والتحديات التي تواجه مجال الحوسبة الكمّية.

 

من البت التقليدي إلى الكيوبت:

بدأ مفهوم الحوسبة الكمّية (Quantum Computing) يتبلور في ثمانينيات القرن العشرين، عندما بدأ العلماء باكتشاف إمكانية استخدام مبادئ ميكانيكا الكم لتطوير نوع جديد من الحواسيب يتجاوز قدرات الحواسيب التقليدية.

 

ويكمن الاختلاف الجوهري بين الحواسيب الكمّية والحواسيب التقليدية في طريقة تمثيل البيانات ومعالجتها، إذ تعتمد الحواسيب التقليدية على النظام الرقمي الثنائي، الذي يقيس البيانات بوحدة تُسمى (البت) Bit، وهي أصغر وحدة لقياس حجم البيانات حاليًا، ويحمل (البت) قيمة واحدة فقط من اثنتين: إما صفر (0) أو واحد (1)، ولا يمكنه حمل القيمتين معًا في الوقت نفسه.

 

في حين تستخدم الحواسيب الكمّية وحدة قياس مختلفة للبيانات تُعرف باسم (الكيوبت) Qubit، ويتميز الكيوبت بقدرته الفريدة على حمل قيمة واحدة (0 أو 1) أو حمل القيمتين معًا في الوقت نفسه، وذلك بفضل ظاهرة (التراكب) التي تنص عليها قوانين ميكانيكا الكم.

 

ولتوضيح مفهوم التراكب، يمكن تخيل البت التقليدي مثل سهم يشير إما إلى الأعلى أو إلى الأسفل، أما الكيوبت، فهو سهم يمكن أن يشير إلى أي اتجاه، مما يمثل تراكبًا بين حالتي الأعلى والأسفل.

 

وتُمكّن هذه الخاصية الحواسيب الكمّية من إجراء أنواع معينة من العمليات الحسابية بسرعة فائقة، تفوق بكثير قدرات الحواسيب التقليدية، وتشمل هذه العمليات فك التشفير ومحاكاة الأنظمة الطبيعية، لذلك تُعدّ الحواسيب الكمّية واعدة في مجالات مثل تطوير الأدوية والمواد الجديدة، وتحسين الذكاء الاصطناعي، وحل المشكلات المعقدة في الفيزياء والكيمياء.

 

ومع ذلك؛ يمثل بناء كيوبتات حقيقية والحصول على المعلومات منها وإليها تحديًا كبيرًا؛ لأن الكيوبتات حساسة للغاية للتفاعلات مع البيئة الخارجية، التي يمكن أن تدمر حالاتها الكمّية الدقيقة.

 

مايكروسوفت تتخذ نهجًا مختلفًا:

شريحة “Majorana 1”.. هل حققت مايكروسوفت إنجازًا في الحوسبة الكمّية؟

 

لم يقتصر سعي الباحثين نحو بناء حواسيب كمّية على تقنية واحدة، بل استخدموا تقنيات متنوعة لبناء الكيوبتات، مثل: استخدام المجالات الكهربائية لحصر الذرات وتكوين الكيوبت، أو استخدام دوامات التيار التي تدور في الموصلات الفائقة لتكوين الكيوبت.

 

وفي خطوة جريئة، اتخذت مايكروسوفت نهجًا مختلفًا تمامًا، إذ راهنت على بناء (الكيوبتات الطوبولوجية) باستخدام جسيمات مادة الماجورانا، التي تَنبَّأ الفيزيائي الإيطالي (إيتوري ماجورانا) بوجودها نظريًا في عام 1937.

 

ولكن جسيمات الماجورانا ليست جسيمات طبيعية مثل الإلكترونات أو البروتونات، بل تظهر فقط داخل نوع نادر من المواد يُسمى الموصل الطوبولوجي الفائق (Topoconductor)، ويتطلب تصنيع هذه المادة تقنيات متقدمة في تصميم المواد، بالإضافة إلى تبريدها إلى درجات حرارة منخفضة للغاية أقرب ما يكون إلى الصفر المطلق، وتجعل هذه الظروف القاسية جسيمات الماجورانا من الكيانات المراوغة التي تصعب دراستها.

 

ونظرًا إلى طبيعتها الغريبة والمتطلبات الصعبة لتكوينها، فإن جسيمات الماجورانا عادة ما تظل حبيسة المختبرات الجامعية، إذ تُدرس بشكل نظري وتجريبي بحت، ونادرًا ما تُستخدم في التطبيقات العملية، مما يجعل اعتماد مايكروسوفت عليها في بناء الكيوبتات الطوبولوجية خطوة جريئة وغير تقليدية.

 

لذلك اعتمد فريق مايكروسوفت في تصميمهم المبتكر للكيوبتات الطوبولوجية على بنية فريدة تتضمن زوجًا من الأسلاك النانوية الدقيقة، ويتميز كل سلك بوجود جسيم ماجورانا محاصر في طرفيه، وهذه الجسيمات، التي تتصرف كأجزاء من كيوبت واحد، هي التي تحمل المعلومات الكمّية، وتُحدد قيمة الكيوبت من خلال قياس مكان وجود الإلكترون، ويجرى هذا القياس باستخدام الموجات الدقيقة.

 

ولكن لماذا اتخذت مايكروسوفت هذا النهج؟

 

 

يكمن سر تقنية مايكروسوفت في قدرة جسيمات الماجورانا على تحقيق ما يُعرف باسم (البتات المضفرة) Braided bits، من خلال تبديل مواضعها بطريقة محددة، أو عن طريق إجراء قياسات خاصة، وتتيح هذه الخاصية قياس الكيوبتات دون أخطاء، وجعلها مقاومة للتداخلات الخارجية، مما يضمن قياسًا دقيقًا وموثوقًا للمعلومات الكمّية، وتُعرف هذه الخاصية باسم (الطوبولوجيا) Topological، في مصطلح (الكيوبتات الطوبولوجية) Topological Qubits.

 

ويُعدّ الدافع وراء هذا الجهد الكبير هو تحقيق حلم الحاسوب الكمّي الخالي من الأخطاء، فنظريًا، يمكن لحاسوب كمّي يعتمد على جسيمات الماجورانا أن يتغلب على مشكلة الأخطاء الكمّية التي تعانيها التصميمات الأخرى، والتي تنتج عن التداخلات الخارجية.

 

ولتحقيق هذا الهدف، اختارت مايكروسوفت هذه التقنية المعقدة، لأن التقنيات الأخرى أكثر عرضة للأخطاء، وتتطلب إدماج مئات الكيوبتات المادية لإنتاج كيوبت منطقي واحد موثوق. أما نهج مايكروسوفت، فيركز في استغلال الخصائص الفريدة لجسيمات الماجورانا لتحقيق أعلى استقرار وموثوقية في الكيوبتات، ومن ثم تقليل الحاجة إلى التصحيح المعقد للأخطاء.

 

ما التحديات التي تواجه مايكروسوفت في نهجها الجديد؟

 

 

هناك تحدٍ أساسي يواجه بناء أي حاسوب كمّي خالٍ من الأخطاء، بما يشمل الحاسوب، الذي تطوره مايكروسوفت باستخدام جسيمات الماجورانا، وهو تحقيق عملية (T-gate) – وهي جزء أساسي من العمليات الحسابية الكمّية – دون أي أخطاء.

 

ونتيجة لذلك، يمكن وصف شريحة (Majorana 1) التي طورتها مايكروسوفت بأنها (شبه خالية من الأخطاء) بدلًا من خالية تمامًا. ومع ذلك، فإن تصحيح الأخطاء في عملية (T-gate) يظل ضروريًا، ولكنه في نهج مايكروسوفت أبسط بكثير من تصحيح الأخطاء العامة التي تواجه المنصات الكمّية الأخرى.

 

ويعني ذلك أن مايكروسوفت قد وجدت طريقة لتقليل التعقيد المرتبط بتصحيح الأخطاء، مما يمثل تقدمًا كبيرًا في هذا المجال.

 

علماء الفيزياء يشكُّون في النتائج:

لم تكتف مايكروسوفت بنشر البيان الصحفي والورقة البحثية، بل قامت بخطوة إضافية لتعزيز مصداقية ادعاءاتها، فقد نظمت الشركة اجتماعًا خاصًا في مركزها البحثي الواقع في سانتا باربرا، في كاليفورنيا، حيث قدمت عرضًا لبعض البيانات التفصيلية لعدد محدود من المتخصصين في هذا المجال.

 

ومن بين العلماء الذين اطلعوا على هذه البيانات، كان الدكتور ستيفن سايمون، عالم الفيزياء النظرية في جامعة أكسفورد في المملكة المتحدة، وقد عبر الدكتور سايمون عن رأيه في النتائج التي اطلع عليها، قائلًا: “هل أراهن بحياتي على أنهم يرون ما يعتقدون أنهم يرونه؟ لا، ولكنه يبدو جيدًا للغاية”. ويُظهر هذا التصريح توازنًا دقيقًا بين الإعجاب بالإنجاز الظاهر، والتشكيك في صحة النتائج.

 

ويعكس هذا الموقف المتوازن طبيعة البحث العلمي، إذ يتطلب التحقق من النتائج تكرار التجارب وإجراء المزيد من التحليلات.

 

كما أشار الباحثون المستقلون خارج شركة مايكروسوفت إلى أنهم لا يستطيعون تقديم تعليقات نهائية على النتائج المتعلقة بالكيوبت الطوبولوجي، وذلك بسبب عدم توفر الورقة البحثية التي تحتوي على التفاصيل التقنية الكاملة. ومع ذلك، فقد عبر بعضهم عن تفاؤل حذر بناءً على النتائج المنشورة حتى الآن.

 

إذ قال ترافيس هامبل، مدير مركز العلوم الكمّية في مختبر أوك ريدج الوطني في تينيسي: “أجد الأمر مشجعًا للغاية”. ويؤكد أن مجرد الادعاء بإنشاء كيوبتات طوبولوجية لم يَعد كافيًا، مشيرًا إلى أن هناك المزيد من العمل الذي يتعين القيام به. ومع ذلك، عَد هامبل هذه الخطوة خطوة أولى جيدة نحو التحقق من صحة نوع الحماية التي يأمل باحثو مايكروسوفت صُنعها.

 

في حين تبنّى بعض الباحثين موقفًا أكثر تشككًا، ومن بينهم الفيزيائي هنري ليج، من جامعة سانت أندروز في أسكتلندا، الذي عبر عن عدم اقتناعه بأن فريق مايكروسوفت قد قدم أدلة كافية على وجود أوضاع صفر ماجورانا في ورقته المنشورة في مجلة Nature. ويرى أن الاختبارات المبكرة التي أجرتها الشركة لم تكن كافية لتقديم مثل هذه الادعاءات، وقال: “التفاؤل موجود بالتأكيد، لكن العلم غير موجود”.

التعليق بواسطة حساب الفيسبوك

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى